إلغاء القرار الإداري:
المقصود من انتهاء تطبيق القرار الإداري بالنسبة للمستقبل أن هذا القرار الإداري لم يعد يرتب آثاراً قانونية منذ اللحظة التي وجد العامل الذي أدى إلى اختفائه كأحد عناصر النظام القانوني، أما ما نتج عنه من أثار منذ إصداره حتى اختفائه فلا مساس بها.
فقد ينتهي القرار الإداري دون تدخل من الإدارة، وهذا متصور في الكثير من الأحوال: فإذا تم تنفيذ القرار أستنفذ موضوعه فلو تم إبعاد أجنبي من البلاد فبمجرد تنفيذه يتحول القرار إلى مجرد عمل مادي.
وكذلك قد ينتهي القرار الإداري دون تدخل الإدارة إذا انتهت المدة المحددة لنفاذه، ويتحقق ذلك إذا نص القرار على سريانه لمدة معينة ومثال على ذلك كالترخيص الذي يصدر لأحد الأفراد باستغلال أرض مملوكة للإدارة لفترة معينة، فعند انتهاء المدة يصبح القرار منتهي.
والهلاك المادي للشيء الذي يقوم عليه القرار الإداري يؤدي، أيضاً، إلى انتهائه، فالقرار الصادر بنزع ملكية عقار للمنفعة العامة ينتهي بزوال هذا العقار لسبب أو لأخر، كما أن موت المستفيد قد يؤدي إلى انتهاء تطبيق القرار الإداري، ذلك أن القاعدة العامة هي أن القرار الإداري الفردي قرار شخصي بمعنى أن مثيره مرتبط بمصير من صدرت لصالحه، فإذا توفي من صدرت لصالحه، فالأصل أن القرار الذي صدر لصالحه ينقضي.
ومن الأمثلة على هذا النوع من القرارات كثيرة ، ومنها القرارات الصادرة بالتعيين في الوظائف العامة، وتلك القرارات الصادرة بالترخيص بمزاولة مهنة معينة، أو بحمل السلاح.
وينتهي القرار الإداري أخيراً بتغير الظروف التي دعت إلى إصداره، فاللائحة الصادرة تنفيذاً لقانون معين، تزول بزوال هذا التنفيذ، إلا إذا نص على غير ذلك.
ففي كل هذه الأحوال، ينتهي القرار الإداري بالنسبة للمستقبل نتيجة تصرف إداري، أي أن اختفاء القرار الإداري يعود إلى تعبير الإدارة عن إرادتها بوضع حد لتطبيقه، وهذا الإجراء يسميه الفقه بالإلغاء.
فالإلغاء، إذن ، هو ذلك العمل القانوني الذي يصدر عن الإدارة متضمناً إنقضاء القرار الإداري بالنسبة للمستقبل فقط، ولا يمس بأي حال من الأحوال الآثار التي رتبها منذ صدوره، وحتى اللحظة التي تقرر فيها الإلغاء.
وسلطة إصدار القرار بالإلغاء مقررة، من حيث المبدأ، للسلطة التي أصدرت القرار الأصيل، أو السلطة الرئاسية بالنسبة لها، وطبقاً للشروط التي قررها القانون لذلك فالقرار الصادر من رئيس الجمهورية لا يمكن المساس به بقرار صادر من وزير، والقرار الصادر من وزير معين لا يجوز إلغاؤه بقرار صادر من أحد مرؤوسيه.
ولكن من المتصور أن يعهد المشرع بسلطة إلغاء بعض القرارات إلى هيئة أخرى غير تلك التي أصدرتها، ومن أوضح الأمثلة على ذلك القرارات الصادرة بالتعيين أو الترقية، فإن سلطة إلغائها تكون لمجالس التأديب، أو المحاكم التأديبية بحسب الأحوال.
ومن جهة أخرى يجب أن يصدر القرار بالإلغاء في نفس الشكل وطبقاً لنفس الإجراءات التي صدر فيها القرار الأصلي، وعلى ذلك، إذا أصدر أحد الرؤساء قراراً كتابياً، فإنه لا يجوز له أن يلغيه بأمر شفهي لأن " الأمر الإداري لا يلغيه إلا أمر إداري أخر بنفس أداة الأمر الأول، وهي الكتابة".
كما أن الإلغاء قد يحدث أثره بالنسبة للقرار كله، أو بالنسبة لجزء منه في حالة إذا كان القرار بقبل التجزئة، ومن أمثلة هذا النوع من القرارات: القرار الصادر بتعيين عدد من الموظفين، فمن المتصور أن يصدر قرار بالإلغاء بالنسبة لبعض هؤلاء الموظفين دون البعض الأخر. وقد يأخذ قرار الإلغاء شكلاً صريحاً، كأن تقتصر الإدارة على إلغاء الترقية أو الترخيص الصادر بحمل السلاح مثلاً، وقد يأخذ شكلاً ضمنياً وذلك في حالة ما إذا أحلت قراراً أخر محل القرار الأول فالقرار الصادر بتعيين موظف في وظيفة موظف أخر يتضمن قراراً بفصل هذا الأخير ، والقرار الصادر بنزع ملكية عقار يلغي القرار الصادر باستيلاء على ذات العقار.. ويختلف إلغاء القرارات عن إلغاء اللوائح.
أولاً: إلغاء القرارات اللائحية
من المسلم به أن للإدارة سلطة إلغاء اللوائح أو تعديلها أو أن تستبدل بها غيرها في الوقت الذي نريد وفقاً لمقتضيات الصالح العام.
ولقد أعترف مجلس الدولة الفرنسي بهذا الاختصاص لجهة الإدارة منذ حكمه الصادر في 27 من يناير سـ1961ـنة الذي يقرر فيه أن القرارات التنظيمية قابلة للتغيير والتعديل في كل وقت حتى تستطيع مواكبة التطورات التي تحدث في المجالات الإدارية، والسبب في ذلك أن اللوائح تضع قواعد عامة ومجردة الغرض منها إنشاء مراكز إدارية عامة أو تعديلها، وهي مراكز خاضعة للتعديل والتغيير في كل وقت.
وما أكدته محكمة القضاء الإداري أيضاً في حكمها حيث تقول " تجب التفرقة بين المراكز القانونية العامة والمراكز القانونية الذاتية، فيما يجوز تغيير الأولى أي تغيير المراكز القانونية العامة في كل وقت بحيث يسري عليها القانون أو القرار التنظيمي الجديد، فإنه لا يجوز المساس بالثانية أي لا يجوز المساس بالمراكز القانونية الذاتية إلا بقانون ينص فيه على ذلك بنص خاص".
وعلى ذلك فإنه وإن كانت علاقة الموظف بالحكومة هي علاقة تنظيمية تحكمها القوانين واللوائح ... ويجوز تغييرها في كل وقت بتنظيم جديد يسري عليه دون أن يكون له الحق في أن يعامل دائماً بالتنظيم القديم، إلا أنه إذا كان الموظف قد أكتسب بتطبيق النظام القديم في حقه مركزاً قانونياً ذاتياً، فإنه لا يجوز المساس به بالتنظيم الجديد، إذ لا يجوز المساس به إلا بقانون ينص صراحة على سريانه بأثر رجعي.
ومع ذلك يلزم التنبيه إلى ملحوظتين أساسيتين هما:
الملحوظة الأولى : إذا كانت السلطة التي أصدرت اللائحة تملك تماماً، إلغاءها في أي وقت، فإن ذلك لا يتأتى (لا يتحقق) إلا بإجراء عام، بمعنى أن الخروج على أحكام اللائحة في التطبيقات الفردية غير جائز إلا إذا كان مقرراً في اللائحة نفسها كاستثناء، وبالشروط الواردة في هذا الشأن.
الملحوظة الثانية : لا تأثير للقرار الصادر بإلغاء اللائحة على القرارات الفردية التي اتخذت بالتطبيق لها، وما ترتب على هذه القرارات من آثار، فهي تظل – رغم إلغاء اللائحة – قائمة منتجة لآثارها القانونية ، فكل من هذه القرارات حياته الخاصة المستقلة.
ثانياً: إلغاء القرارات غير اللائحية
في البداية يجب التفرقة بين القرارات التي ترتب حقوقاً للأفراد، وتلك التي لا ينتج عنها شيء من ذلك.
(1) إلغاء القرارات التي ترتب حقوقاً للأفراد:
يسلم الفقه بصعوبة وضع تعريف محدد للقرارات المنشئة لحقوق الأفراد، ولذلك يقتصر الكتاب على ضرب الأمثلة لها: القرارات الصادرة بالتعيين في الوظائف العامة، الترقيات، منح الأوسمة والنياشين، تراخيص البناء، القرارات الصادرة بناء على سلطة الإدارة التقديرية بمنح إعانات مالية لمستحقيها.. الخ.
هذه القرارات لا يجوز من حيث المبدأ إلغاؤها إذا صدرت سليمة مستوفية للشروط التي يتطلبها القانون، وتتميز بكونها ذات طابع نهائي، ولا تملك الإدارة التصرف – في مواجهتها- إلا وفقاً للقانون، كل ذلك لأن احترام المراكز الخاصة التي تنشأ – عن القرارات غير اللائحية – يعتبر، مثله في ذلك مثل مبدأ المشروعية، من أسس الدولة القانونية.
ومع التسليم بأن عدم جواز المساس بالحقوق المكتسبة- التي تترتب على هذه القرارات – يحول دون إلغائها، إلا أن من الخطأ التقرير بأن هذا المبدأ ذو طابع مطلق. فالإدارة في بعض الأحيان، يمكنها – بل يجب عليها – أن تلغي قراراً ترتبت عليه حقوق مكتسبة، ومن أمثلة لذلك القرار الصادر بالتعيين في وظيفة عامة، فهذا القرار – الذي ينتج عنه حقوق لصاحب الشأن – يمكن إلغاؤه في حالتين:
الحالة الأولى : وهي عزل الموظف في حالة ارتكابه خطأ معيناً شريطة مراعاة الإجراءات والشكليات المقررة لذلك.
الحالة الثانية : وهي إحالة الموظف إلى المعاش (التقاعد) إذا ما بلغ السن القانونية لذلك، والذي يتضمن في الحقيقة إلغاء للقرار بالتعيين بالنسبة للمستقبل، ويلاحظ أن هذا القرار أي قرار الإحالة للمعاش (التقاعد) ليس جائزاً فقط لجهة الإدارة اتخاذه، بل من الواجب عليها أيضاً، ذلك أنه من غير المعقول أن يستمر الموظف في مباشرة مهام وظيفته إلى ما بعد بلوغه السن القانونية.
أما القرارات المعيبة، فمن الممكن إلغاؤها خلال مدة معينة تبدأ من تاريخ إصدارها، وأحكام الإلغاء هي نفسها أحكام السحب.
(2). إلغاء القرارات التي لا ترتب حقوقاً للأفراد:
القرارات التي لا ترتب حقوقاً للأفراد كثيرة ومتنوعة، وأولها القرارات النوعية التي يقرر القضاء بشأنها أنه لا تنشأ عنها حقوق مكتسبة للأفراد. ومنها أيضاً القرارات الوقتية سواءً صدرت لمنح تراخيص مؤقتة بطبيعتها كالقرارات الصادرة بالتصريح لأحد الأفراد باستغلال جزء من المال العام، والتصاريح الصادرة عن سلطة البوليس(الشرطة)، فهذه قرارات بطبيعتها، ذات طابع مؤقت، حتى ولو لم ينص على سريانها لمدة معينة أو القرار بندب موظف للقيام بعمل معين، أو تلك الصادرة بقيد موظف على درجة أعلى.
ومن القرارات التي لا تنشأ حقوقاً مكتسبة، القرارات الكاشفة التي تصدر بهدف الكشف عن مركز قانوني قائم، كالشهادة الجامعية المؤقتة التي تسلمها الجامعة لصاحب الشأن مقررة فيها حصوله على درجة علمية معينة، وكالقرار الصادر بمنح نياشين، وذلك إذا ما اقتصر مصدره على التقرير بأن أصحاب الشأن قد استوفوا الشروط التي وضعتها القوانين واللوائح لذلك.. الخ.
فهذه القرارات يمكن للإدارة العدول عنها، وإلغاؤها بالنسبة للمستقبل في أي وقت شاءت دون التقيد بميعاد، وهو ما قررته محكمة القضاء الإداري والمحكمة الإدارية العليا في العديد من الأحكام[/size]