هناك نوعين من العرف: العرف العادي والعرف الدستوري وهذا الأخير يأخذ العديد من الأشكال والأنواع وهو ما سنبيّنه تفصيلا فيما يلي:
العرف بمفهومه العادي يعرفه الفقهاء وعلماء الاجتماع وأصحاب الرأي بأنه ما استقرت عليه النفوس بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول وكذلك العادة كما يقول "الجرجاني"؛ وقال "النسفي" : العرف والعادة ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطبائع السليمة بالقبول.
ومن الواضح أن هذين التعريفان متقاربان لكن "النسفي" جمع في تعريفه بين العرف والعادة، في حين "الجرجاني" عرّف العرف ثم عطف عليه العادة، ولكن أهم فعل "النسفي" (وهو فقيه) هو أن وصف الطبائع بالسلامة أي تكون سليمة ولم يصبها أي انحراف، وهذا القيد قرّب العرف على ما أرى من نظرة الشريعة الإسلامية للعرف باعتبار أن الطبيعة السليمة هي (فطرة الله التي فطر الناس عليها ) الآية 30 من سورة الروم.
وأحدث التعاريف للعرف ما تعارف الناس عليه وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك.
والعرف ما ألفه الناس في معاملاتهم واستقامت عليه أمورهم، والأعراف والعادات من صنع الجماعات البشرية فهي أداة طبيعية تستخدمها الجماعات بالقدر و الغرض الذي تريد، ويتم كل ذلك بطريقة آلية، مما يجعلها أي الأعراف مقبولة من الجميع ((لأن العمل الآلي هو الأنسب الذي يستجيب به الإنسان للمثير الخارجي)) وهذا ما تختلف فيه الأعراف عن بقية الشرائع والقوانين التي تفرض في الغالب على الناس فرضا بينما تعتبر الأعراف والعادات من نتاج الانتخاب الطبيعي لألوان السلوك التي تثبت صلاحيتها في المجتمع.
ولهذا كان الإنسان أكثر ميلا إلى عاداته وأكثر نزوعا إليها لدرجة أنه خضع لأحكامها حتى في المسائل العامة مثل المساس بالشرف وقتل النفس والاعتداء على الممتلكات بمختلف أنواعها ونحو ذلك، فالأعراف من خصائص الجماعات البشرية منذ وجود هذه الجماعات، وسارت في طريق الحضارة، ولعل الأعراف والعادات كانت من وسائل تقدم الإنسان ذاته، حيث أن الأعراف ما هي في الحقيقة إلا نوع من التجربة، ومظهر خارجي لبعض جوانب الفكر، حتى لقد اعتبرت من معايير تقدم الجماعة ومن عناوين حضارتها وذلك لما في الأعراف وقيمتها الذاتية، ونوعية هذه القيم من الدلالة على ما تمارسه الجماعة من ألوان النشاط وأنماط السلوك، ولعل من البديهي القول أن المقصود من الأعراف إنما هو نوعها أو جنسها لأفرادها المتغيرة.
هل العرف ثابت أم قابل للتحوير والتطوير ؟
الأعراف في هذا تشبه الكائنات الحية من حيث التعاقب، إذ يذهب الأفراد ويبقى النوع، وهذا من مزايا الأعراف أيضا، إذ ما تكاد الجماعة أن فردا من أفراد العرف قد أصبح يشل حركتها حتى تترك العمل به فيندثر تلقائيا، وتفرز الجماعة غيره من الأعراف ما يكون أكثر استجابة لحاجتها وأقرب إلى روح عصرها.
ويشترط في العرف عموما الركن المادي المتمثل في التكرار والركن المعنوي المتمثل في الشعور بالإلزامية وعدم مخالفة العرف للنظام العام والآداب العامة ويضاف الى هذه الأركان بالنسبة للعرف الدستوري أن يكون مصدره إحدى السلطات العامة المعروفة (رئيس الجمهورية، رئيس الحكومة، رئيس الوزراء، البرلمان...) وبذلك يختلف العرف الدستوري عن العادي في كون الأول عام لكل أرجاء الدولة بينما العرف العادي يختلف من منطقة الى أخرى، كما يشترط في العرف الدستوري أن لا يكون قد نشأ في ظرف استثنائي وأن لا يكون متناقضا أو مخالفا لنص دستوري مكتوب.
أما عن أنواع العرف الدستوري فتتمثل في :
أولا : العرف المفسر
1/ ماهية العرف المفسر
يقصد بالعرف المفسر ذلك الذي يقتصر أثره على مجرد تفسير نص غامض أو مبهم من نصوص الدستور وذلك عن طريق إيضاح معناه فالعرف في هذه الحالة يقتصر هدفه على تفسير هذا النص من نصوص الدستور وتحديد معناه وإيضاحه، وهو لا ينشئ قاعدة قانونية جديدة ولا يخرج عن دائرة النصوص المكتوبة وإنما في نطاقها.
ومن المتفق عليه أنه لا مجال للتفسير إلا إذا كان هناك غموض في النص الدستوري، أما إذا كان النص واضحا وجليا وبدون أية شبهة فلا مجال عندئذ للتفسير .
كذلك لا يجوز عن طريق ادعاء التفسير الخروج بالنص عن معناه الأصلي لأن ذلك يتعدى حدود التفسير إلى صور أخرى.
ويعتبر بعض الكتّاب العرف السابق على صدور الدستور وسيلة من وسائل تفسير نصوصه، وذلك ما لم يكن هذا العرف منافيا للمبادئ العامة التي قام على أساسها الدستور الجديد وما لم ينص الدستور على ما يناقض ذلك العرف.
وتبدو أهمية العرف المفسر بصورة خاصة في ظل الدساتير المقتضبة، ومن أدق الأمثلة على العرف الدستوري المفسر، ما حدث في ظل الدستور الفرنسي الصادر علم (1875)، وهو دستور مقتضب، فقد نصت المادة الثالثة منه على أن (رئيس الجمهورية يكفل تنفيذ القوانين)، وقد استقر العمل في فرنسا في ظل هذا النص على أن كفالة تنفيذ القوانين لا تكون إلا بإمكان إصدار اللوائح اللازمة لتنفيذ تلك القوانين، وبذلك تم تفسير النص على إعطاء رئيس الجمهورية حق إصدار اللوائح المختلفة التي تكفل تنفيذ القوانين ،و إن كان هذا النص لا يشير صراحة إلى هذا الحق، ووفقا لما يقوله الفقهاء المسلمون فإن (ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، وتنفيذ القوانين يكون أساسا عن طريق اللوائح التنفيذية، وفي هذه الحالة فإن العرف المفسر لم ينشئ حكما جديدا ولم يكمل ناقصا وإنما رفع غموضا وأتاح للنص إمكانية التنفيذ السليم.
2/ القيمة القانونية للعرف المفسر
بناء على ما تقدم فإن غالبية الفقهاء ترى إمكانية قيام العرف الدستوري المفسر وعلى أن هذا العرف له ما للنص الدستوري الذي يقوم بتفسيره من قوة.
ولكن هذا العرف يأخذ حكم التفسير في تعديله لمعاني النصوص الدستورية وهذا ما سنفصله فيمايلي:
ثانيا: العرف المكمل
1/ماهية العرف المكمل
يظهر العرف المكمل في حالة وجود نص مكتوب تصدى لموضوع معين بالتنظيم ووضع له أحكامه، ولكنه وضعها بصورة غير كاملة، ويكون دور العرف عندئذ تكملة هذه الأحكام، أو سد ما يكون بالتنظيم الذي وضعه النص من نواحي نقص.
إذن العرف المكمل يملأ الفراغ الذي تركه المشرع الدستوري في أمر من الأمور، وينظم المسائل الدستورية التي أغفل المشرع الدستوري تنظيمها، ومن ثم يكون العرف المكمل منشئا لقواعد قانونية جديدة.
وعلى ذلك فالعرف المكمل يختلف من العرف المفسر، فإذا كان العرف خلاف ذلك ينشئ حكما جديدا ويعالج موضوعا لم يعالجه المشرع الدستوري فيسد النقص في الأحكام الواردة في الدستور ومن ثم لا يستند إلى نص غامض .
ومن الأمثلة الواضحة على العرف المكمل هي القواعد الدائمة للبرلمان، فصلاحيات التشريع تضفي على مجلسين ،ولكن الطريقة التي تمارس بها هذه الصلاحيات تحددها القواعد الدائمة، وهكذا فإن نظام اللجنة للبرلمان الفرنسي في ظل الجمهورية الرابعة لم يؤسس في الدستور بل في القواعد الدائمة للمجلسين – كما كان غليه حال سابقيهما، مجلس النواب ومجلس الشيوخ في ظل الجمهورية الثالثة، وكان نظام اللجنة هذا على أكبر جانب من الأهمية في الحكومة الفرنسية- فقد أثر في صلاحيات مجلس الوزراء، وذهب أبعد من ذلك، بحيث كان سببا في ضعف الوزارات الفرنسية النسبي، وكانت القاعدة القاضية بأن لائحة ما يجب أن تنظر فيها لجنة قبل موافقة الجمعية الوطنية عليها قد وضعت بشكل خاص الحكومة في موقف ضعيف، إذا كان من اليسير على لجنة من اللجان أن تقترح أي تغييرات في اللائحة كانت تعتقد أنها ملائمة.
إن أهمية هذه الأنساق والترتيبات في فرنسا يمكن الحكم فيها إذا نظرنا إلى النظام المختلف في أنظمة الكومنويلث البريطانية هي الأنظمة المصوغة على غرار برلمان بريطانيا. وهذا النظام يعمل هو الآخر بموجب أعراف مجسدة في شكل قواعد دائمة. وتنص هذه القواعد على أن أي لائحة لا تنظر فيها أية لجنة ما لم يكن المجلس قد أجازها في قراءة ثانية، وبهذه الطريقة يمكن أن يحصر عمل اللجنة بمحاولات تعديل اللائحة من حيث المبدأ، لأن المبدأ سبق أن قبله المجلس ، ومزايا هذين النظامين محل نقاش، ولكن ما يهمنا هو أن توازن القوى أو الصلاحيات في العملية التشريعية في دولة ما يمكن أن يتأثر برمته بالعرف. إن قانون الدستور تكملة أعراف تعطيه معنى جديدا .
ولا يمكن فهم العملية التشريعية في هذه الأقطار بدون أن تؤخذ في الحسبان هذه الأعراف علاوة على القانون .
إن تركيب الوزارة ( الحكومة) في بعض الدول تنظمه أو تؤثر فيه العادات أو الأعراف، فعندما يعين رئيس الجمهورية الأمريكي أعضاء في حكومته فهو يملك من الناحية القانونية صلاحية غير مقيدة لتعيين من يشاء من الأشخاص .
ولكنه بموجب عادة في الأقل، يحاول أن يضمن ألا يكون جميع المعينين من الولايات الشرقية أو ولايات الغرب الأوسط، مثلا فقط. أنه يسعى إلى توزيع التعيينات بحيث تمثل بشكل ما المناطق الرئيسية التي يعلق أهمية سياسية عليها .
ومن الصعب التعبير عن هذا بقاعدة ما، ولكن ربما من الصحيح القول بأنه بموجب عرف يحاول أن يدخل على وزارته شيئا من التمثيل الفيدرالي.