طبيعة القواعد الدستورية:
دلقد ثار نقاش طويل بين الفقهاء حول طبيعة القواعد الدستورية، فهل هي قواعد قانونية بالمفهوم الضيق للكلمة؟ أم أن لها طبيعة أخرى غير قانونية؟ في الواقع لقد أنقسم الفقه إلى أكثر من اتجاه في هذا الخصوص: ذهب الاتجاه الأول إلى أن القواعد الدستورية هي قواعد قانونية أي أنها لا تختلف من حيث الطبيعة عن غيرها من القواعد التي تحكم الأنشطة المختلفة في الدولة ويستند هذا الاتجاه إلى مبدأ سمو الدستور، أي أن القواعد الدستورية تحتل قمة الهرم القانوني في الدولة ومن ثم فهي تعلو على غيرها من القواعد القانونية، وتعتبر في الوقت ذاته مصدر قانونية جميع القواعد في الدولة.
وبما أن القواعد الدستورية هي التي تمنح الصفة القانونية لجميع القواعد المطبقة في الدولة فعلية يجب أن تتمتع القواعد الدستورية بدورها بنفس الصفة التي تتمتع بها تلك القواعد وهي الطبيعة القانونية.
أما الاتجاه الفقهي الثاني، فقد أنكر الطبيعة القانونية على القواعد الدستورية وأساس ذلك يكمن في عنصر الجزاء. فالقاعدة الدستورية تورد قيوداً على السلطة الحاكمة التي تقوم بتوقيع الجزاء وفرض الطاعة على الأفراد، مما يؤدي إلى أن تكون تلك السلطة هي نفسها المطالبة بتوقيع الجزاء على نفسها إذا ما خرجت على القيود التي يفرضها القانون.
ولقد أدت هذه النتيجة إلى أن ذهب البعض من الفقهاء إلى أن القاعدة الدستورية ينقصها عنصر الجزاء، حيث يشترطون في الجزاء أن يكون مادياً تتكفل السلطة العامة بتوقيعه بما لديها من وسائل. إلا أن من الفقهاء من لا يشترط أن يكون الجزاء متمثلاً في الإكراه المادي الذي تقوم السلطة العامة بتوقيعه، ويرى أن الجزاء يمكن أن يتمثل في رد الفعل الاجتماعي الذي يترتب على مخالفة القاعدة القانونية فالجزاء يختلف باختلاف نوع القاعدة ذاتها وتختلف صورة وأنواعه بما يتناسب مع مضمون القاعدة القانونية والمصالح التي تحميها.
ولقد ذهب هذا الفريق من الفقهاء بناء على رأيهم في فكرة الجزاء إلى إن القاعدة الدستورية يتوافر فيها عنصر الجزاء ويتحقق لها جميع عناصر القاعدة القانونية.
ومما لاشك فيه إن هذا الجزاء المرسل (غير المنظم) لحماية القاعدة الدستورية، والذي يتمثل في الضغط الشعبي والاضطرابات والمظاهرات والانتفاضات والثورات يعد كافياً لإضفاء الطبيعة القانونية على القاعدة الدستورية، وذلك لاختلاف طبيعة العلاقات في القانون العام عنها في القانون الخاص، مما يستتبع اختلاف صور الجزاء.
ومما يؤكد أهمية هذا الجزاء غير المنظم أيضاً وبالتالي يؤكد الشعور بالالتزام بالقواعد الدستورية، إن السلطة العامة حينما تخالف بعض القواعد الدستورية لا تعترف يتلك المخالفة. وإنما تحاول أن تضع تبريرات وتفسيرات لتصرفها مما يظهرها أمام الرأي العام وكأنها لم ترتكب مخالفة دستورية.
وفضلا عن هذا الجزاء المرسل يوجد صور من الجزاء المنظم لحماية القاعدة الدستورية. فالدستور يتضمن النص على الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. كما يتضمن كذلك إعطاء الحق للبرلمان في مسائله أعضاء السلطة التنفيذية.
وبالنسبة للدول التي تأخذ بالرقابة القضائية على دستورية القوانين، فأن من حق القضاء الامتناع أو إلقاء القوانين المخالفة للدستور.
أما الاتجاه الفقهي الأخير: فيذهب إلى القول بأن للدستور طبيعة سياسية وأن هذه الطبيعة تكمن في (إن القواعد الدستورية لا يمكن أن تبين طريقة ممارسة السلطة دون أن تحدد أو تكرس القابضين على هذه السلطة لذلك فأن الدساتير حملت منذ نشأتها معنى ومدلولاً سياسياً حين استعملت كوسيلة لتكريس سلطة فرد أو فئة أو حزب أو طبقة).
ولقد تبني قانون اصطلاح النظام القانوني رقم (35) لسنة 1977. هذا الاتجاه حينما قال: (وعليه فأن الدستور هو، في حقيقته، تكريس لرؤى واختيارات سياسية للقيادة السياسية. وهذه الاختيارات السياسية تتعلق بالأسس الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي السياسية للمجتمع سواء طرحت كمعطيات مسلم بها أم كمنهاج ودليل عمل مستقبلي. كما أن هذه الاختيارات السياسية تتعلق أيضاً بطريقة ممارسة السلطة (الدستور بالمعنى الضيق) التي هي اختيار سياسي تمليه أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة.
فطريقة ممارسة السلطة في الدولة تتأثر بالأسس الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع كما أنها تؤثر في الوقت نفسه في هذه الأسس وعليه، فأن طبيعة القواعد الدستورية هي سياسية، وان الدستور مدلولاً سياسياً وان تضمنت الوثيقة الدستورية قواعد ذات طبيعة قانونية).